فصل 6-10 في آداب القرآن

6

فإن أراد الشروع في القراءة استعاذ فقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا قال الجمهور من العلماء وقال بعض العلماء يتعوذ بعد القراءة لقوله تعالى فإذا قرأت فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وتقدير الآية عند الجمهور إذا أردت القراءة فاستعذ ثم صيغة التعوذ كما ذكرناه وكان جماعة من السلف يقولون أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ولا بأس بهذا ولكن الاختيار هو الأول ثم إن التعوذ مستحب وليس بواجب وهو مستحب لكل قارئ سواء كان في الصلاة أو في غيرها ويستحب في الصلاة في كل ركعة على الصحيح من الوجهين عند أصحابنا وعلى الوجه الثاني إنما يستحب في الركعة الأولى فإن تركه في الأولى أتى به في الثانية ويستحب التعوذ في التكبيرة الأولى في صلاة الجنازة على أصح الوجهين قال وينبغي أن يحافظ على قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة سوى براءة فإن أكثر العلماء قالوا إنها آية حيث تكتب في المصحف وقد كتبت في أوائل السور سوى براءة فإذا قرأها كان متيقنا قراءة الختمة أو السورة فإذا أخل بالبسملة كان تاركا لبعض القرآن عند الأكثرين فإذا كانت القراءة في وظيفة عليها جعل كالأسباع والأجراء التي عليها أوقاف وأرزاق كان الاعتناء بالبسملة أكثر لتيقن قراءة الختمة فإنه إذا تركها لم يستحق شيئا من الوقف عند من يقول البسملة آية من أول السورة وهذه دقيقة نفيسة يتأكد الاعتناء بها وإشاعتها

7

 فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة والدلائل عليه أكثر من أن تحصر وأشهر وأظهر من أن تذكر فهو المقصود المطلوب وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب قال الله عز وجل أفلا يتدبرون القرآن وقال تعالى كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته والأحاديث فيه كثيرة وأقاويل السلف فيه مشهورة وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها إلى الصباح وقد صعق جماعة من السلف عند القراءة ومات جماعات حال القراءة وروينا عن بهز بن حكيم أن زرارة بن أوفى التابعي الجليل رضي الله عنه أمهم في صلاة الفجر فقرأ حتى بلغ فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير خر ميتا قال بهز وكنت فيمن حمله وكان أحمد بن أبي الحواري رضي الله عنه وهو ريحانة الشام كما قال أبو القاسم الجنيد رحمه الله إذا قرئ عنده القرآن يصيح ويصعق قال ابن أبي داود وكان القاسم بن عثمان الجوني رحمه الله ينكر على ابن الحواري وكان الجوني فاضلا من محدثي أهل دمشق تقدم في الفضل على ابن أبي الحواري قال وكذلك أنكره أبو الجوزاء وقيس بن جبير وغيرهم قلت والصواب عدم الإنكار إلا على من اعترف أنه يفعله تصنعا والله أعلم وقال السيد الجليل ذو المواهب والمعارف إبراهيم الخواص رضي الله تعالى عنه دواء القلب خمسة أشياء قراءة القرآن بالتدبر وخلاء البطن وقيام الليل والتضرع عند السحر ومجالسة الصالحين فصل في استحباب ترديد الآية للتدبر وقد قدمنا في الفصل قبله الحث على التدبر وبيان موقعه وتأثر السلف وروينا عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال قام النبي بآية يرددها حتى أصبح والآية إن تعذبهم فإنهم عبادك الآية رواه النسائي وابن ماجه وعن تميم الداري رضي الله تعالى عنه أنه كرر هذه الآية حتى أصبح أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية وعن عبادة بن حمزة قال دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو فطال علي ذلك فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو ورويت هذه القصة عن عائشة رضي الله تعالى عنها وردد ابن مسعود رضي الله عنه رب زدني علما وردد سعيد بن جبير واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله وررد أيضا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم الآية وررد أيضا ما غرك بربك الكريم وكان الضحاك إذا تلا قوله تعالى لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل رددها إلى السحر فصل في البكاء عند قراءة القرآن قد تقدم في الفصلين المتقدمين بيان ما يحمل على البكاء في حال القراءة وهو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين قال الله تعالى ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا وقد وردت فيه أحاديث كثيرة وآثار السلف فمن ذلك عن النبي اقرؤوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته وفي رواية أنه كان في صلاة العشاء فتدل على تكريره منه وفي رواية أنه بكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف وعن أبي رجاء قال رأيت ابن عباس وتحت عينيه مثل الشراك البالي من الدموع وعن أبي صالح قال قدم ناس من أهل اليمن على ابي بكر الصديق رضي الله عنه فجعلوا يقرؤون القرآن ويبكون فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه هكذا كنا وعن هشام قال ربما سمعت بكاء محمد بن سيرين في الليل وهو في الصلاة والآثار في هذا كثيرة لا يمكن حصرها وفيما أشرنا إليه ونبهنا عليه كفاية والله أعلم قال الإمام أبو حامد الغزالي البكاء مستحب مع القراءة وعندها وطريقه في تحصيله أن يحضر قلبه الحزن بأن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في ذلك فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر الخواص فليبك على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب

8

 وينبغي أن يرتل قراءته وقد اتفق العلماء رضي الله عنهم على استحباب الترتيل قال الله تعالى ورتل القرآن ترتيلا وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله قراءة مفسرة حرفا حرفا رواه أبو داود والنسائي والترمذي قال الترمذي حديث حسن صحيح وعن معاوية بن قرة رضي الله عنه عن عبدالله بن مغفل رضي الله عنه قال رأيت رسول الله يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح يرجع في قراءته رواه البخاري ومسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله وعن مجاهد أنه سئل عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وآل عمران والآخر البقرة وحدها وزمنهما وركوعهما وسجودهما وجلوسهما واحد سواء فقال الذي قرأ البقرة وحدها أفضل وقد نهي عن الإفراط في الإسراع ويسمى الهذرمة فثبت عن عبدالله بن مسعود أن رجلا قال له إني أقرأ المفصل في ركعة واحدة فقال عبدالله بن مسعود هكذا هكذا الشعر إن أقواما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع القلب فرسخ فيه نفع رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ مسلم في إحدى رواياته قال العلماء والترتيل مستحب للتدبر ولغيره قالوا يستحب الترتيل للعجمي الذي لا يفهم معناه لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام وأشد تأثيرا في القلب
 
9

 ويستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر ومن العذاب أو يقول اللهم إني أسألك العافية أو أسألك المعافاة من كل مكروه أو نحو ذلك وإذا مر بآية تنزيه لله تعالى نزه فقال سبحانه وتعالى أو تبارك وتعالى أو جلت عظمة ربنا فقد صح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال صليت مع النبي ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ ترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ رواه مسلم في صحيحه وكانت سورة النساء في ذلك الوقت مقدمة على آل عمران قال أصحابنا رحمهم الله تعالى ويستحب هذا السؤال والاستعاذة والتسبيح لكل قارئ سواء كان في الصلاة أو خارجا منها قالوا ويستحب ذلك في صلاة الإمام والمنفرد والمأموم لأنه دعاء فاستووا فيه كالتأمين عقب الفاتحة وهذا الذي ذكرناه من استحباب السؤال والاستعاذة هو مذهب الشافعي رضي الله عنه وجماهير العلماء رحمهم الله قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ولا يستحب ذلك بل يكره في الصلاة والصواب قول الجماهير لما قدمناه

10

ومما يعتنى به ويتأكد الأمر به احترام القرآن من أمور قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين مجتمعين فمن ذلك اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القراءة إلا كلاما يضطر إليه وليمتثل قول الله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون وليقتد بما رواه ابن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا قرأ القرآن لا يتكلم حتى يفرغ منه ذكره في كتاب التفسير في قوله تعالى نساؤكم حرث لكم ومن ذلك العبث باليد وغيرها فإنه يناجي ربه سبحانه وتعالى فلا يعبث بين يديه ومن ذلك النظر إلى ما يلهي ويبدد الذهن وأقبح من هذا كله النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه كالأمرد وغيره فإن النظر إلى الأمرد الحسن من غير حاجة حرام سواء كان بشهوة أو بغيرها سواء أمن الفتنة أو لم يأمنها هذا هو المذهب الصحيح المختار عند العلماء وقد نص على تحريمه الإمام الشافعي ومن لا يحصى من العلماء ودليله قوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ولأنه في معنى المرأة بل ربما كان بعضهم أو كثير منهم أحسن من كثير من النساء ويتمكن من أسباب الريبة فيه ويتسهل من طرق الشر في حقه ما لا يتسهل في حق المرأة فكان تحريمه أولى وأقاويل السلف في التنفير منهم أكثر من أن تحصى وقد سموهم الأنتان لكونهم مستقذرين شرعا وأما النظر إليه في حال البيع والشراء والأخذ والإعطاء والتطبب والتعليم ونحوها من مواضع الحاجة فجائز للضرورة لكن يقتصر الناظر على قدر الحاجة ولا يديم النظر من غير ضرورة وكذا المعلم إنما يباح له النظر الذي يحتاج إليه ويحرم عليهم كلهم في كل الأحوال النظرة بشهوة ولا يختص هذا بالأمرد بل يحرم على كل مكلف النظر بشهوة إلى كل أحد رجلا كان أو امرأة محرما كانت المرأة أو غيرها إلا الزوجة أو المملوكة التي يملك الاستمتاع بها حتى قال أصحابنا يحرم النظر بشهوة إلى محارمه كأخته وأمه والله أعلم وعلى الحاضرين مجلس القراءة إذا رأوا شيئا من هذه المنكرات المذكورة أو غيرها أن ينهوا عنه حسب الإمكان باليد لمن قدر وباللسان لمن عجز عن اليد وقدر على اللسان وإلا فلينكر بقلبه والله أعلم

Post a Comment

0 Comments